كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله، فقال له عامل السجن: يا فتى والله لو استطعت لخلّيت سبيلك، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك فكنْ في أي بيوت السجن شئت.
فكره يوسف عليه السلام أن يعبر لهما ما سألاه لِما عَلِمَ في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره، قال لهما: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في نومكما: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} في اليقظة.
هذا قول أكثر المفسّرين، وقال بعضهم: أراد به في اليقظة فقال: {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} تطعمانه وتأكلانه: {إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} بتفسيرة قال: إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتُم وكم أكلتُم، فقالا له: هذا من فعل العَرّافين والكَهنة، فقال لهما عليه السلام: ما أنا بكاهن وإنّما: {ذلكما} العلم: {مِمَّا عَلَّمَنِي ربي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} كرّرهُم على التأكيد. وقيل: هم الأوّل جماد كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظامًا أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] فصارت الأولى المُلغاة والثانية ابتداء، وكافرون خبره.
{واتبعت مِلَّةَ آبائي} فتح ياءه قومٌ وسكّنها آخرون، فما وفي أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أُخت الفتحة وقرأها الأعمش {آبَاي إبْرَاهِيْمَ} {دُعَاي} {إلاّ فِرَارًا} مقصورًا غير مهموز وفتحَ ياءهما مثل [...].
{إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا} ما ينبغي: {أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ} من صلة، تقديره: أن نشرك بالله شيئًا.
{ذلك} التوحيد والعلم: {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصنامًا يعبودنها فقال إلزامًا للحُجّة: {ياصاحبي السجن} جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة: {أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] ولسكّان النار: {أَصْحَابَ النار} [الأعراف: 44].
{ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ} آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ: {خَيْرٌ أَمِ الله الواحد} الذي لا ثاني له: {القهار} قد قهر كلّ شيء، نظيرها، قوله: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} أي ممّن دون الله، وإنّما قال ما تعبدون وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك،: {إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} وذلك تسميتهم أوثانهم آلهةً وأربابًا من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة،: {أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} حجّة وبرهان: {إِنِ الحكم} القضاء والأمر والنهي،: {إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} نظيره: {وَمَا أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5]،: {ذلك} الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك،: {الدين القيم} المُستقيم،: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ}.
ثمّ فسّر رؤياهما فقال: {ياصاحبي السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا} وهو الساقي،: {فَيَسْقِي رَبَّهُ} سيّده يعني الملك: {خَمْرًا} وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يُخرجه الملك ويكون على ما كان عليه،: {وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ} وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك في اليوم الرابع فيصلبه، فتأكل الطير من رأسه.
قال ابن مسعود: لمّا سمعا قول يوسف قالا: ما رأينا شيئًا إنّما كنا نلعب، فقال يوسف عليه السلام: {قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به.
معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه «أبي رزين العقيلي قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر فإذا عُبِّرت وقعت، وإنّ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءً من النبوة، فأحسبه قال: لا تقصّه إلاّ على ذي رأي».
وأخبرنا عبدالله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا لأول عابرة».
{وَقَالَ} يوسف عند ذلك،: {لِلَّذِي ظَنَّ} علم،: {أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} وهو الساقي، هذا قول أكثر المفسّرين، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين، وقال: إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق الله ما يشاء، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء،: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} سيّدك يعني الملك، وقيل له: إنّ في السجن غلامًا محبوسًا ظُلمًا: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه غفل وطال من أجلها حبسه.
وقال محمد بن إسحاق: الهاء راجعة في قوله: {فَأَنْسَاهُ الشيطان} إلى الساقي فنقول: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية: فأنساه الشيطانُ ذكره لربه كقوله: خوف: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي يخوّفكم بأوليائه.
{فَلَبِثَ} مكث،: {فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} اختلف العُلماء في معنى بضع فقال أبو عُبيدة: هو ما بين الثلاثة إلى الخسمة، ومجاهد: ما بين الثلاث إلى التسع، الأصمعي: ما بين الثلاث إلى التسع، وابن عباس: ما دون العشرة، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلاّ مع العشرة والعشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيتُ العرب تعمل ولا يقولون: بضع ومائة ولا بضع وألف، وإذا كانت للذكران قيل: بضعة، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين، قال وهب: أصاب أيوب عليه السلام البلاء سبع سنين، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين، وعذّب بخت نصّر فحُوِّل في السباع سبع سنين.
روى يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث»، يعني قوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} قال: ثمّ بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس، وقال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي: اذكرني عند ربّك، قيل له: يا يوسف اتّخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك، فبكى يوسف عليه السلام قال: يا ربّ إننّي رابني كثرة الطوى فقلت كلمة، فويلٌ لأخوتي.
وحُكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف (عليهما السلام)، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال: يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين؟، ثمّ قال له جبرئيل: يا طاهر الطاهرين، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول: مالَكَ؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين؟، فوعزّتي لألبثنّك في السجن بضع سنين، قال يوسف: وهو في ذلك عليّ راض؟ قال: نعم، قال إذًا لا أُبالي.
وقال كعب: قال جبرئيل ليوسف: إنّ الله تعالى يقول: من خلقك؟ قال: الله، قال: فمن حبّبكَ إلى أبيك؟ قال: الله، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان؟ قال: الله، قال: فمن نجّاك من كُرب البئر؟ قال: الله، قال: فمن علّمك تأويل الرؤيا؟ قال: الله، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك؟
فلمّا انقضت سبع سنين، قال الكلبي وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤيًا عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى،: {إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} خرجن من نهر يابس وَسَبْعُ بَقَرَات عِجَاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم يُرَ منهنّ شيئًا، وَأَرَى سَبْع سُنْبُلات خُضْر قد انعقد حبّها وسبعًا أُخَر يَابِسَات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال: {يا أيها الملأ} أي الأشراف: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ} فا عبروها،: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} تفسّرون، والرؤيا: الحلم وجمعها رؤى.
{قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} أي أحلام مختلطة مُشتبهة، أهاويل بأباطيل، واحدها ضغث، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش، قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44] قال ابن مقبل:
خُود كأنّ فراشها وضعت ** أضغاث ريحان غداه شمال

وقال آخر:
بحُمى ذمار حين قلّ مانعه ** طاو كضغث الخلا في البطن مُكتمنِ

والأحلام جمع الحُلم وهو الرؤيا والفعل منه حُلمتُ وأحلمُ، بفتح العين في الماضي، وحلمتها في الغابرة لها وحُلمًا فعاد فحذف يا من حالم.
{وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ}،: {وَقَالَ الذي نَجَا} من القتل، منهما: من الفتيين وهو الساقي،: {وادكر}: أي وتذكر حاجة يوسف قوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ}،: {بَعْدَ أُمَّةٍ}: بعد حين، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك بعد أَمَة أي بعد نسيان ويُقال أَمَة، يأمَهُ، أمَهًا، إذا نسي، ورجل ماهو أي ذاهب العقل.
وأنشد أبو عبيدة:
أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثًا ** كذاك الدّهر يودي بالعقول

وقرأ مجاهد: {أمْه} بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة، وهو مثل الأمه أيضًا وهما لغتان ومعناهما النسيان،: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}: أخبركم بتفسيره وما ترون: {فَأَرْسِلُونِ}: فأطلقوني، وأذنوا لي أمضي وأتكم بتأويله وفي الآية أختصار تقديرها فأرسلون، فأتي السجن، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة فقال: {يُوسُفُ} يعني يا يوسف،: {أَيُّهَا الصديق}: فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سُمّي أبو بكر صدّيقًا، وفعيّل للمبالغة والكثرة مثل الفسيّق الضليل والشريب والخمير ونحوها.
{أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}: الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا.
{لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس} أهل مصر،: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}، تأويلها، وقيل: لعلّهم يعلمون فضلك وعلمك، فقال لهم يوسف مُعلّمًا ومعبّرًا: أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة، وذلك قوله تعالى: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} أي كعادتكم، وقال: بعضهم أراد بجدَ واجتهاد وقرأ بعضهم {دأبًا} بفتح الهمزة وهما لغتان، يقال دبت في الأمر أدأب دأبًا ودأَبًا إذا اجتهد، قال الفرّاء: وكذلك كلّ حرف فُتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عينًا أوحاء أو خاء أو هاء.
{فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} في بذره: {إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ} وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد،: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ} يعني سبع سنين جدد بالقحط: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} يعني يُؤكل، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة، وهذا كقول القائل:
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة ** وليلك نومٌ والردى لك لازمُ

والنهار لا يسهو والليل لا ينام، وإنّما يُسهى في النهار ويُنام في الليل. {إِلاَّ قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ} أي: تخزنون وخزنون وتدّخرون.
{ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ} وهذا خبر من يوسف عليه السلام عمّا لم يكن في رؤيا الملك، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه الله عزَّ وجلَّ، كما قال قتادة: زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها، فقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} أي يمطرون بالغيث وهو المطر، وقيل: يُغاثون، من قول العرب استغثتُ بفلان وأغاثني،: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قرأ أهل الكوفة إلاّ عاصمًا تعصرون، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب، وقرأ الباقون بالياء ردًّا إلى الناس، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمرًا، الزيتون زيتًا، والسمسم دُهنًا، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تعصرون تحلبون، وقال أبو عبيدة: ينجون من الجدب والكرب، والعصر: المنجى والملجأ، وقال أبو زبيد الطائي:
صاديًا يستغيثُ غير مُغاث ** ولقد كان عصرة المنجود

وأخبرني أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري، أبو علي بن حبش المقرئ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ، حدّثني أبو زرعة، حدّثني حفص بن عمر، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عُبيد قال: سمعتُ عيسى بن الأعرج يقرأها فيهِ يُغاثُ الناسُ وفيهِ يُعْصِرُون، برفع الياء قال: قلت: ما يُعصرون؟ قال: المطر أي تمطرون وقرأ: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14].
{وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} الآية، وذلك أن بنو لمّا رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار، وعرف الملك أنّ الذي قال كائن، قال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه،: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرسول} يوسف، وقال له: أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يُظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة فَ: {قَالَ} للرسول: {ارجع إلى رَبِّكَ} أيّ سيّدك يعني الملك: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبدالحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ {النسوة} بضمّ النون.
{إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} إنّ الله تعالى بصنيعهنّ عالم، وقيل: معناه: إنّ سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي ممّا ترميني به المرأة.
قال ابن عباس: فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلّم الملك لشأنه، فمازالت في نفس العزيز منه شيء يقول: هذا الذي راود امرأتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَقَد عَجبتُ من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربّك، ولو كنتُ مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب، وما ابتغيت الغفران كان حليمًا ذا أناة».
{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ}: الآية، في الكلام متروك قد استُغني عنه (يدلّ) الكلام عليه، وهو: فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة، فدعا الملك النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهنّ وامرأة العزيز فقال لهنّ: ما خطبكنّ: ما شأنكنّ وأمركنّ: {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ}، فأحبنه: {قُلْنَ حَاشَ للَّهِ} معاذ الله،: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق} أيّ ظهر وتبيّن والأصل فيه: حصّ وقيل: حصّص، كما قيل: كبكبوا في كبوا، وكفكف في كفّ، وردد في ردّ، وأصل الحَص استئصال الشيء، يقال حصَّ شعره إذا استأصله جَزًّا، وقال أبو قيس ابن الأصلت:
قد حصّت البَيضة رأسي فما ** أطعم نومًا غير تهجاع

وتعني بالآن حصحص الحقّ: ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} فتنتُه عن نفسه،: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي}.
فلمّا سمع: {ذلك} يوسف، قال: ليعلم ذلك الذي مضى من ردّي رسول الملك في شأن النسوة: {لِيَعْلَمَ} العزيز.
{أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ} في زوجته: {بالغيب} في حال غيبتي عنه: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} واتّصل قول يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بقول المرأة: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ} من غير تبيين، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه، كاتّصال قول الله تعالى: {وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] بقول بلقيس: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: 34] وكذلك قول فرعون لأصحابه: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء: 35] وهو متّصل بقول الملأ: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35].
روى أبو عُبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئًا ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر.
وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين، عبدالله بن يوسف بن أحمد بن علي قال: حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز، قال الحسن بن علي البغدادي، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن الخفاف عن جعفر بن نوفان عن ميمون بن مهران عن عبدالله بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه السلام وقال إنّي قد جئتُ لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: جزاك الله خيرًا، لا حاجة في قتال القوم، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين}.
قال أهل التفسير: لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل: ولا حين هممت بها؟ فقال عند ذلك يوسف: {وَمَا أُبَرِّئ نفسي} من الخطأ والزلل فاركبها،: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء} بالمعصية: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} يعني إلاّ من رحمه ربي فعصم، و: {مَا} بمعنى مَن كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النساء} [النساء: 3] أي مَن طاب، وقوله إلاّ استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} [يس: 43-44] يعني إلاّ أن يُرحموا، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما.
{إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. اهـ.